العولمة والحداثة

قبل بروز ظاهرة (العولمة) وانشغال الفكر الإنساني العالمي بماهيتها وإشكالاتها، تواترت هناك تيارات وتجمعات وتكتلات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية وعلمية واجتماعية، برزت الى طاولة النقاش العالمي، وتصاعدت حدتها في الجدل والحوار، على مدى سنين طويلة، فشكلت بهذا البروز المتواتر، ظواهر واضحة لها سماتها وموضوعيتها في المجتمع إلانساني، حتى أخذت مجالاً واسعاً في التنظيرات والدراسات، التي عززت من وجودها ومكانتها، وساعدت على فرضها على الوعي الإنساني الذي عرف آلياتها وأشكالها وظواهرها بشكل واضح من قبيل (حوار الحضارات، وعمليات التحول الديموغرافي، والتقارب الثقافي،والدعوة الى الحداثة والتحديث، والتحالفات الدولية) وغير ذلك.


وبالعودة الى نشوء هذه الظواهر، وأسباب وجودها، والتعمق في دراسة أشكالها وإشكالاتها وإفرازاتها الفكرية والثقافية، وما خلفته من انعكاسات على كافة الأصعدة، نجد أنها كانت بمثابة الخطوة الأولى الدافعة لانطلاقة (العولمة) أو الممهدات التنظيرية والتأسيسية لها، أو فلنقل ان هذه الظواهر، جاءت به من رؤى وأفكار، وعملت عليه من آليات وخطوات واتجاهات، كانت الخطوات الأولى الفاعلة، التي عملت على تهيئة الوعي العالمي في مراحله السابقة لاستقبال (العولمة) في مرحلته الحالية والمستقبلية، بشكلها وتداعياتها الحالية، والتي لم تظهر باسمها الحالي (لعولمة) مثلما ظهرت اليوم، وإنما مهدت لها، وظهرت (روحاً وفكراً) بآليات الظواهر التي ذكرناها. والتي أنابت عنها في بادئ الأمر، وربما تكون (العولمة) في الظاهر منها الآن ـ مع ما يبرز في عمقها من أخطار ومخاوف ـ هو الشكل الأخف من شكل أخطر وأثقل في العمق المخفي منها، والذي لم يصل العالم الى كنهه بعد.


ولا نستبعد في المستقبل القادم، ظهور العديد من الظواهر والاتجاهات والأشكال الجديدة، صغيرة كانت أم كبيرة، والتي ستظهر حتماً لتعزز دور (العولمة) وتدعمها لتحقيق أهدافها على أكمل وجه.. وربما حينها ستخرج علينا العقول المخططة الى تقف وراء قيادة (العولمة) بظاهرة أخرى أخطر من (العولمة)، أو تعد (العولمة) الممهد النشط لهذه الظاهرة الأخطر، لما بعد (العولمة) والتي لم تصل بعد الى سمتها وأسمها.. من يدري؟.. فالعقول (العولمية) لا تقف عند هذا الحد، وهذا المنحى.. حتى في تحقيق العولمة بكل أشكالها وأهدافها في عموم المجتمعات ـ ان تحقق لها ذلك ـ ..
المهم ان فرض الإرادة الواحدة، وتطبيقها في الفكر الواحد في كافة المجتمعات ليس بالأمر السهل.. ولا هو بالمتحقق اليسير خلال عقد أو عقدين أو أكثر من الزمن، ولكنه يبقى رهان (العولمة) وما بعد العولمة، ويصُّب في أهدافها وصميم توجهها سواء بالعولمة أو بغيرها طال الزمن أو قصر.

  • بدايات الظواهر الحداثوية
    وبما ان العودة الى بدايات نشوء الظواهر الحداثوية التي سبقت (العولمة) وأسست لها، ودراستها للوصول الى حقيقة (العولمة) من خلالها، أمر يطول الحديث فيه، ولسنا معنيين به هنا.. ولكن لا بأس ان نراجع بشكل سريع بعض الجوانب المتعلقة بالحداثة والتعرض الى بعض الجزئيات المتعلقة بها.. والتي أدت الى بروز ظاهرة (العولمة) ..في العصر الراهن..
    يشير الدكتور عمرو حمزاوي الى ان (اهتمامات أخرى شغلت الفكر الإنساني خلال العقود السابقة للتسعينات، من شاكلة أزمة الحداثة ومستقبل عمليات التحول الديمقراطي والتنمية المجتمعية الشاملة والعلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب أو لتسارع معدلات عمليات وتقنيات الاندماج الاقتصادي والتقارب الثقافي بين أقاليم العالم المختلفة.. وقد انسجم جل هذه التحولات من حيث وجهتها التي أعادت للجوانب غير المادية أهميتها في الكتابات حول المجتمع والسياسة مع ظاهرتين جديدتين اتضحت معالمها في النصف الثاني من التسعينات إلا وهما الوجود المتنامي في المجتمعات الغربية لجماعات من أصول أجنبية استقرت بها وأصبحت بدياناتها وثقافاتها المتنوعة جزءاً من نسيجها المجتمعي، ومن جهة أخرى تشكل ما أصبح يعرف بظاهرة المجتمع المدني العالمي، فقد بدأت معضلات الاندماج وقضايا التمايزات الثقافية والدينية بين الاغلبيات والأقليات في البروز الى السطح وأسرعت من وثائر النقاش حول البعد ألقيمي، الحضاري في المجتمعات المعاصرة، وتبلورت بالتبعية صياغات فكرية متعددة حول أساليب واستراتيجيات التعامل من الآخر الديني والعرقي، نوقشت بصورة نقدية تحت مسميات مثل الثقافة القائدة و الثقافة التعددية والثقافة الخليط)(1 ) .
    وبما ان الاحتواء الايجابي لإشكالات الواقع العالمي وتمظهراته المتعددة لم تؤدي الى وضوح في الحلول والمعالجات والاستجابات التي ترضي (الطرف المسيطر) الذي سعى بدوره الى البديل الآخر (للثقافة القائدة للتعددية الثقافية)، أو تعميقاً لها بإشكال أخرى إرضاء للتعددية التي عبرت عن نفورها من الاحتواء حين أرجعته الى غايات هيمنية، تسلطية، تختفي خلف واجهة التحديث والحداثة.. وكذلك لطرح البدائل الأخرى لحلول المشكلات المتشابكة التي يعاني منها المجتمع المدني وثقافته بمواجهة الثقافات المتعددة في نسيجه المجتمعي.. لذا فكر (الآخر) المسيطر، بخطط أكثر استجابة للواقع العالمي، وأكثر احتواء للصراعات الداخلية في إطار الأقليات وثقافاتها المتعددة.. ولإعلاء شأنه في كل ذلك، ولكي لا يزيد من حدة الصراع فقد طرح مشروعه الإستراتيجي على دفعات لا يهمه في ذلك المدى الزمني بقدر ما يهمه الوصول الى حالة التحقق الكامل للثقافة القائدة، وسيطرتها على التعددية الثقافية.. أما الزمن ـ باعتقاده ـ فهو كفيل بتحقق الآلية الواسعة للسيطرة وإخضاع الأنماط الأخرى في شبكته النمطية الواحدة مرحلة مرحلة.. فجاءت الحداثة لتكفل نجاح الخطوة الأولى من الخطوات المتعددة..

  • ماهية الحداثة
    والحداثة، كما يحددها الباحث سامي خشبة (مصطلحاً يشير الى مرحلة تاريخية طويلة نسبياً، بدأت في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن السادس عشر ، وتميزت في القرن السابع عشر بسلسلة من التغيرات الكبيرة والعميقة، الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وشملت بشكل متداخل ومتفاعل عملياً، مجالات البحث والمعرفة العلميين والتطبيق التكنولوجي وأشكال ومؤسسات الحكم السياسية والمدنية والتشريعية والقانون والمعاملات التجارية، وذلك في إطار عمليات بناء الدول القومية وتزايد سلطانها مع تزايد مساحات الحرية والمسؤولية الفردية ايضاً، ويمكن إجمال تلك التغيرات عموماً، في ثلاثة جوانب رئيسية، أولها، هو الجانب الثقافي، فقد انتصر الاتجاه الى الاعتماد على المعرفة الحسية، وعلى العقل، وعلى التجربة التي تنتج المعرفة العلمية، ولكنها المحكومة بدرجة نمو العلوم الطبيعية والعقلية (المنطق والرياضيات ثم علوم المعادن والكيمياء والميكانيكا أساساً)، وبدرجة تعميق ونمو الوعي العلمي والرؤية العقلانية العلمية لظواهر الطبيعة والمجتمع، وفي تقابل متعارض مع أشكال الفكر والحياة التقليدية، يمكن تصور الحداثة باعتبارها مرحلة من تطور المجتمع والفرد الإنسان، تتجلى بإشكال وتشكيلات وممارسات عديدة ومتنوعة بقدر تعدد وتباين الثقافات الإنسانية، ولكنها تتشابه من حيث اتساع مجال وتزايد مكانة البحث والمعرفة العلميين والابتكار التكنولوجي ونماذج المؤسسات وأساليب العمل الديمقراطية وهياكل الدول القومية) ( 2 ) .
    ومثلما تعرضت (العولمة) لطروحات متباينة في التبني والرفض والانتقاد، تعرضت (الحداثة) في العقود الأخيرة من القرن العشرين لجملة من الانتقادات والمراجعات في الطروحات التنظيرية التي راحت تنظر اليها نظرة جديدة تنطلق من واقعها النظري، وواقعها الموضوعي ومدى انعكاس الواقع الأول على الواقع الثاني وتطابقه معه وافتراقه عنه، ومدى الهوة الحاصلة بين الواقعين، للكشف عن آلية عمل المنطلقات النظرية التحديثية على أرض الواقع في عموم المجتمعات وتباين اتجاهاتها ونظمها وتطلعاتها،.. حيث يرى ” ايوجين مينيون 1991 ” ان (المجتمعات الحداثية لم تسع أبداً للقضاء لا على الضمير الفردي، ولا على الهوية الشخصية للإنسان، ولا على الدين .. كعقيدة أو كميل فطري للإنسان ـ ولا على الأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع الإنساني، وان الترابط بين الأفراد الأحرار صار أكثر قوة من الرباط ألقسري بين إتباع لا يملكون حرية القرار ولا حرية الاختيار) ( 3 ) .
    ويرى ” انطوني جيرنز 1991 ” ان (للحداثة ميلاً أصيلاً الى الانتشار في العالم، أو قدرة على ذلك، من حيث انها مرحلة لابد ان تدخلها كل ثقافات العالم، ولكنها مرحلة تصحبها تغيرات متلاحقة ومستمرة في إدراك الذات وإعادة تحديد معاني ودلالات الهوية الفردية والاجتماعية) ( 4 ) .
    أما ” زيجمونت يومان 1991 ” فيرى ان (الحداثة رغم قيامها على العقلانية فأنها لارتباطها بنمو سلطة البيروقراطية لا تسمح بأي مساحة للتنوع ولا للتعدد الحقيقي ولا للغرباء ولا للتسامح) ( 5 ) .
    ومما تقدم يمكن لنا ان نعرف كيف كان العالم المسيطر يفكر وكيف كان يخطط لشيوع ” النمط ” المسيطر، باختراع الأفكار والبدائل والطروحات الأكثر انسجاماً مع ماهيته واتجاهاته، ووجهة نظره، كاشفاً عن النوايا الخفية، أو النوايا المستقبلية، التي يطرحها كمشاريع احتوائية أو تطويرية أو تحديثية، لهذه البنية أو تلك، أو لهذا الجانب أو ذلك من الجوانب الأساسية في هذا المجتمع أو في عموم المجتمعات.. بغية إكمال الصورة ورؤيتها على أرض الواقع مثلما رسمها في خياله، إذ انه بهذا التخطيط، وهذا الطرح إنما يعبر قبل كل شيء عن ماهيته وما عنده بالدرجة الأولى، لا عن ماهية الآخرين وما عندهم، فحين يؤسس لرؤية جديدة ، ويحث الآخرين الى تبني هذه الرؤية والانطلاق منها إنما يريد هو ان يقود هذه الرؤية ولا يسمح لغيره بهذه القيادة، ويسمح لهذا الغير بالاستلام منه والإخضاع له، بوصفه ـ باعتقاده ـ صاحب الفكرة المخطط التحديثي، وبذلك يتحقق هدفه بالسيطرة وشيوع نمطه الجديد المفصل من رؤيته وحلوله وتنظيراته لإقناع الآخرين ـ بأي وسيلة كانت ـ ان هذا النمط هو المنقذ من المتاهة، وهو الحل لكل المشكلات والإشكالات التي تجابه المجتمعات، فهو في بعض الحالات يخلق المشكلات في هذه المنطقة أو تلك من العالم، ثم يأتي بحلول لها، ليثبت للآخرين قدرته على مجابهة المعضلات وحلها خدمة للمجتمعات ـ كما يوهم البعض ـ ونوعا ما، قد نجح في ذلك ، كون ” مكانته الإعلامية ” سريعة الاشتغال، وعلى كافة الاتجاهات لإخضاع الآخرين والتأثير فيهم، وذلك بقوة ما ينتجه هذا الإعلام الذي صار تأثيره واضحاً في إعلامنا الذي أصبح في نسب منه ومن قنواته المتعددة، نسخة مكررة من إعلام المركز المسيطر، أو ترديداً له..
    وهكذا الحال كانت مشاريع الحداثة منذ نشأتها في القرن السادس عشر, وما وراء شيوعها حتى الوصول الى التمظهر الآخر لها في القرن العشرين في وجه ” العولمة ” ..

  • جدلية التحديث والتطور
    ان الانفتاح على ” التحديث ” في مظاهره ” التطويرية ” ـ كما يشاع في تمظهراته الشكلية ـ لا يمكن إغفاله أو تجاهل أساسياته، والحاجة الى قدراته وإمكانياته في إنعاش قدراتنا وإمكانياتنا؛ فهو ـ أي التحديث ـ من وجهة النظر المستقبلية، الارتقائية، الانتقائية، يمثل الطموح الإنساني، بعدما أصبح بديهة من بديهيات التطور والطموح العلمي بالارتقاء الأفضل الى المستوى الأكثر استجابة للمرحلة الحياتية، إلا ان هذا الانفتاح يحمل في طياته العديد من الإشكالات والمشكلات، لعل من أبرزها حالة الانسياق وراء التحديث على حساب القيم ورسوخ المعاني، والتشكيك بالذات الى الحد الذي يوصل الى إضعاف قدراتها، وجعلها في إطار ضيق أمام قدرات التحديث ” الهائلة ” على التجدد المتواصل، والشعور دائماً بالحاجة الى الآخر في كل المجالات، مما لا يمكن ـ في هذا الحال ـ الخروج من هذه التبعية وشراكها الذي يصبح مأزقاً تاريخياً وموضوعياً لا يمكن الخروج منه في نهاية المطاف،.
    أضف الى ذلك ان الانفتاح على ” التحديث ” يتطلب حذراً شديداً من التفاعلات الغير متوقعة والاحتمالات المفاجئة التي قد تؤدي الى ” النكوص ” أو إدانة الهوية والواقع المعاش خاصة في الجانب الثقافي الذي نعد مؤثراته من أخطر المؤثرات لما تحمله الثقافات الأخرى المفتوحة في ” التحديث ” من سياقات وأنماط وأفكار واتجاهات مغايرة، تنزع الى سيادة بنيتها على بنية الآخر، إذ نجد (في الثقافات الامبريالية المهيمنة ذلك التوجه الى “التفكيكية ” التي هي سمة ” ما بعد الحداثة ” في تسمية ، و “الحداثة الفائقة ” في تسمية أخرى، وهذه التفكيكية المقصودة هنا ليست مجرد ” منهج نقدي أدبي ” بل هي نهج عام في التعامل مع جميع ما كان يحصل على مدى قرون من أدب وفكر وفلسفة في الغرب ذاته، لغاية إهدار أي ” معنى إنساني ” في رؤيات البشر لعملية وجودهم في التاريخ، حيث غياب المرجعيات وتآكل الذات وفقدانها لحدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه لحدوده، وينعكس الاضطراب والتشوش الثقافيين الملحوظين الآن في الغرب على مجمل الأوضاع الثقافية في بقية أرجاء العالم.. وفي الوطن العربي نلحظ حدة هذا الانعكاس في صيغة “فوضى ثقافية” وقلق وتوتر فكري داعين الى الخمود على ” الجبهة المتنورة ” ـ ان صح التعبير ـ وفي صيغة اشتداد للانكفاء النوستالجي التزمتي على ” الجبهة الأصولية ” ) ( 6 ) .
    ان ” الفوضى الثقافية ” وعدم الوضوح في الرؤية الثقافية، في ضبابية الواقع العربي، تحصيل حاصل، نتيجة للتوترات الشديدة في الواقع التحديثي والتناقضات المتعددة التي تسيطر على السلوك الفكري وتشظياته بين أصالة الهوية والتحول والتجديد، وبين هذا وذاك، تحصل الاختراقات لعمق الخصوصية الثقافية، وفي صميم قيمها ومعانيها ورموزها، فيحصل الاغتراب بين الهوية والواقع.. وكل ذلك يؤدي الى الشعور بالتبعية الى الغازي,..

  • دوافع السيطرة والمسيطر
    وهذه النتيجة هي ما يفكر بها الآخر، ويسعى الى تحقيقها في عالمنا اليوم بكل الوسائل والإمكانيات الحديثة، بالاستفادة من ايجابيات ومحركات الوسائل القديمة التي مهّدت له، وأدت ما عليها ان تؤديه حينها..
    ان الدافع الأساسي لكل هذا التخطيط في المخيلة المسيطرة، ورسوخها بهذه الحّدة، وهذا التوّجه، في بنية تفكير الآخر ” المسيطر ” ينطلق أساساً من خطته وسعيه لإحكام سيطرته على العالم ، ونهب ثرواته، والتحكم بثقافاته على وفق ما يريده لمصلحته، وبالتالي ليصل الى تحقيق هدفه لقيادة هذا العالم، بإرادته ليصبح هو المتحكم، بعد ان أصبح المسيطر، فتراه ينزع الى خلخلت البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية وافتعال الأزمات والصراعات، وزيادة حدة المشاكل في مجتمعات العالم، وفي مجتمعات معينة يجعلها “عينية ” لمختبره أو “هدفا ” لخططه، لتأتي بعدها الخطوة الأخرى حين تنهض مكانته الإعلامية بالكشف عن هذه الأزمات والمشكلات، وتضخيمها ونشر إشكالاتها ومؤثراتها واعتبارها معضلات تهدد العالم، فيأتي هو بدور “المنقذ ” وواضع الحلول لها، فيعمل على استقطاب العقول المبدعة من هذه المجتمعات خاصة “المثقفة ” الى سلطاته المتقدمة في تقنياتها المعلوماتية والاتصالية والعلمية الأخرى التي يحتكرها “القطب الواحد ” ليتحكم بها في مصائر العالم..
    وأمام حالة الاستقطاب هذه، ونزوع المرء اليها يشعر هذا المرء بعدها بالتغريب، و(يفيد معنى التغريب أمرين، الأول سيادة النزعة الغربية، أو الاحتذاء بالغرب، أوربا والولايات المتحدة، والثاني هو الاستلاب أو الاغتراب، أي خلق هوة بين المرء وواقعه، حين تغلف الذات بمشاعر الغربة والوحشة والانخلاع والانسلاخ، واللا انتماء بعد ذلك) ( 7 ) .
    أما المعنى الاصطلاحي للتغريب كما يصفه الدكتور عبد الله أبو هيف فهو يعني (شعور المرء بأنه مبعد عن البيئة التي ينتمي اليها، فيصبح منقطعاً عن نفسه، ويصير عبداً لما حوله، يتلقى تأثيرها المتمثل في إنجازات الإنسان ومواصفاته ونظم حياته، دون فعالية تذكر) ( 8 ) .
    وهذا ما يحصل في واقع الثقافة العربية التي شاع فيها التغريب، الذي سعى الى تفكيك العرى الوثيقة بينها وبين تاريخها وتراثها، أو بينها وبين وظائفها التاريخية والعضوية والنفسية) ( 9 ) .
    وأمام هذه الحالة وجد “القطب الواحد” المسيطر فاعليته في الهيمنة على ذات الآخر، ولتكون فاعليته أوسع اشتغالاً واحكاماً على ذات الآخر، عمد الى تشويه قيمه ومعانيه الدينية والأخلاقية والثقافية والحضارية، مثلما حدث مع الحضارة العربية والإسلامية، والنظر اليها نظرة استعلائية، تشكيكية، تحاول النيل من قيمها ومن إنجازاتها بقصد إضعافها والتنكيل فيها، في ذات مواطنيها أولاً، وفي ذوات ونظر العالم أجمع.. ومن ثم العمل على جعلها تابعة في سيرورتها، الى أدوات الغرب وتكنولوجياته، حين يظهر عجزها المادي في هذا المجال، فعمل على وصفها بالاستهلاكية، وسعى الإعلام الغربي الى تشويه صورة الإسلام وجوهرهُ كما يشير الى ذلك أدوارد سعيد في كتابه ” تغطية الإسلام ” 1981 فيؤكد على ” ان الإسلام مثّل على الدوام إزعاجاً مضراً للغرب ” فراح هذا الغرب يتهم الإسلام بالإرهاب والتخلف والعنف والانغلاق، وسعى الى جعل هذه الصور المشوّه في ذهنية الرأي العام حول الإسلام.. ولم يكتف الغرب بتشويه الإسلام في أبحاثه الفكرية والعلمية والسياسية كما يقول الدكتور عبد الله أبو هيف (بل مضى الى ذلك في الخيال الروائي والخيال السياسي مثلما فعل “انتوني بيرجيس” ” بريطانيا” في روايته ” لندن في الظلام” (1979 بالانجليزية) وهي تتحدث عن إجتياح المسلمين للحياة البريطانية حتى صاروا أغلبية في البرلمان ، والنتيجة هي “تخلفهم ” عن العصر، مما يجعل لندن غارقة في الظلام، إذ حطم المسلمون نمط الحياة المتقدم، وخربوا المكتسبات الحضارية فيها) ( 10 ) .. وغير ذلك من شواهد التشويه الكثيرة ، التي صنعها الغرب، مما مهد له الطريق لتحقيق أهدافه لإخضاع العالم لإرادته وهيمنته، بعد ان جعل من الإسلام والعرب هدفاً أساسياً لدعوته، في محاربة الإرهاب، كونه قد اقنع دول العالم التي تقف خلفه في محاربة للإرهاب الذي ينطلق باعتقاده من العرب والإسلام، متناسياً انه هو من مّهد لهذا الإرهاب..
    وإذا جئنا الى دراسة وضع الطفل العربي نجد ان كل ذلك متجسداً في أغلب النتاج الفكري الغربي، الموجه الى الطفل العربي إذ (ان هذه النظرة المعادية للإسلام قوة حضارية هي الغالبة أيضاً على منتجات أدب الأطفال الواردة من المركز الغربي بحكم امتلاكه لوسائل التنميط الثقافي وآليات انتشارها وهذا يساهم في اغتراب الطفل عن واقعه وانتمائه القومي وخصائصه الثقافية) ( 11 ) .

  • التشخيص والمعالجة
    ان هذا الحال يحتاج الى معالجات جذرية تنبع من الواقع وأسباب ترديه، وكيفية التعامل معه ومع الآخر، وهذا لا يحصل دون ان تكون هناك رؤية شاملة تتجاوز الأطر الضيقة، لتعمل في آلية متقدمة تستثمر الايجابي وترسخه في الواقع العربي والعمل على التعاون المشترك لوضع الخطط الناجحة لمخاطبة الطفل وتقريبه من آليات التقدم العالمي دون فقدان خصوصية الهوية الثقافية، وإعادة ثقته بنفسه وبوسائله واحترام منجزاته، والتطلع الى المستقبل المشرق بوعي الحاضر الذي تسجيه “العولمة” وتحاول اجتياحه والاستعلاء على الخصوصيات الثقافية فيه..
    لذلك علينا ان ننتبه الى أهمية إحاطة وسائلنا الاتصالية المعنية بمخاطبة الطفل وثقافته وإعلامه، بالرعاية الخاصة والأهمية التي تستحقها، ونعتني بها عناية فائقة تؤدي الى التحصين الثقافي بما هو راسخ وإيجابي في الثقافة الوطنية، التي تحترم الخصوصية الثقافية، وتنطلق منها في تنشيط ثقافة الإنسان وإعلاء شأنها، وجعلها المنطلق العلمي للوعي الثقافي بما هو كائن ويكون من مستجدات تحديثية أو تطويرية في بنية الثقافة الإنسانية بشكل عام وكيفية الاستجابة لآليات التطور وفق المنظور العلمي للتطور بناء على الحاجة والتوافق دون فقدان الخصوصية الثقافية وسماتها الاجتماعية..
    وهذا لا يحصل دون ان نعي آليات التطور الثقافي وتوافقاته الموضوعية مع آلياتنا الاجتماعية.. لكي ندخل السباق الثقافي العالمي بوعي وموضوعية وعلمية تصعّد من نظرتنا العلمية، وتطوّر مستوى تفكيرنا وإبداعنا وحركتنا، وتترك أثرنا وتأثيرنا الواضحين في عملية التطور الثقافي الذي ينطلق بشكل أساسي من وعينا وصنعنا، لا من وعي الآخر وصنعه..
    ولكي نكون بهذا المستوى من التفكير والعمل والفاعلية، لابد ان ندرك حقيقة وجودنا إدراكا علمياً يميز العلم عن الجهل، وينطلق بتفكيرنا العلمي الى المستويات المتقدمة التي تطور سلوك الإنسان ووعيه وتفكيره الى المستوى الذي يجعله علمياً وموضوعياً في إدراك العلم وصراعه المتواصل مع الجهل. وكذلك في البحث عن الحقيقة في خضم الخرافة، وكيفية اكتساب الثقافة اكتساباً علمياً متوافقاً.
    وأمام هذا الواقع لابد من إدراك حقيقة العلم والتعلم وتشخيص المعوقات التي تعوّق العلم والنشاط الثقافي، من خلال تأشير مظاهر الجهل الثقافي ومكامنه وأسبابهُ، والعمل على تخليص الإنسان من خطر الأمّيات الحضارية بإشكالها “الأبجدية ” و ” الثقافية ” و” التكنولوجية ” وعند ذلك يمكن لنا ان نصعّد من وثائر تطورنا الثقافي ونهتم أكثر بثقافتنا الفرعية، ومنها على وجه الدقة ” ثقافة الأطفال ” التي تنطلق منها ثقافة المستقبل، وثقافة المجتمع الرصين في خطوته المتقدمة.
  • هوامش :
    1- عمرو حمزاوي ، العولمة الثقافية وحوار الحضارات والأختلاف كقيمة ، الأهرام ، 24 أكتوبر 2003 القاهرة ،
    2- سامي خشبة ، مفهوم الحداثة والتحديث : التعريف والنقد ، الأهرام ، 24 أكتوبر 2003 القاهرة ،
    3- ايوجين مينيون ، مجتمعات متشظية ، باريس 1991 ،
    4- انطوني جيرنز ، الحداثة والهوية الذاتية ، لندن 1991 ،
    5- زيجمونت يومان ، الحداثة والتضارب المتأرجح ، بيروت ، الدار العالمية ، 2001،
    6- احمد يوسف داود ، مخاطر العولمة في أدب الطفل العربي ، بحث غيرمنشور مقدم الى المؤتمر الحادي والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ، بغداد 2001 ،
    7- عبد الله أبو هيف ، الغزو الثقافي ومخاطره على الهوية في أدب الأطفال ، بحث غير منشور مقدم الى المؤتمر الحادي والعشرين للأتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ، بغداد 2001 ،
    8- المرجع نفسه ،
    9- المرجع نفسه ،
    10- المرجع نفسه ،
    11 – المرجع نفسه،
    ——————————

الكاتب والناقد والباحث فاضل الكعبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *