النص :
الوصيَّة..
بحسنِ نيَّةِ..
يميلُ الإلهُ على الأرضِ ليحتضنَ وجعَها..
فيكسرُ أضلاعَها في مجزرةٍ عاطفيّة!
وبمنتهى الوداعةِ..
يخرجُ الزّمانُ من عزلتِهِ التّجريديّةِ..
ليغسلَ أسماءنا من دماءِ رموزها..
فيتسمَّمُ النهرُ، وتغرقُ الأسماءُ جميعُها..
إلّا من قطعَ السَّابلة مع الله،
أو لحقَ بسفينةِ الفنتازيا!
ضاقُ العمرُ على نذورِهِ أيُّها الغريب..
يا من انضوى فيه كلُّ الأولياءِ والقصصُ المستحيلة
يا نديمي في الرّيقِ العنيدِ
ويا شريكي في حرقِ جلبابِ الحكمةِ الوحيد
أنا التّلةُ الّتي تطلُّ على ما لا تريد
آهٍ ما أكملَ البعيدَ أيُّها الغريبِ!
أيُّها الواقفُ في أعالي الزِّمان كعرّابِ الرّعدِ،
ترمي لي حبلَ عمرِكَ لأصعدَ إليك، وتُعيرني يديك!
تَشرقُ بي الحياةُ كثيراً يا صديقي..
وأنا إن بكيتُ..
لا أبكي من الموتِ؛ أنا أبكي على الحياةِ
أبكي على بلدٍ تجلسُ في حضنِ حراميها
وتخبّئ في جيوبه حليّها..
وتقدّمُه لنا على أنّه محامينا..
بينما تحدجُنا، نحن، بسوطِ الاشتراكية!
أبكي على عمرٍ أجبرَ على بيعِ (اليانصيبِ)،
وهو يعرفُ أنَّ الجائزة الكبرى هي الموت!
وأبكي على نرجسٍ ساديٍّ احتلّني..
يحملُ رشّاشَ (اللا) ويحرسُ بحيرةَ نيراني!
لو تهدّمَ حائطي الافتراضيَّ على ذاتي الشَّاعرة
ولطمتني حجرُ القضايا الكبرى..
ومتُّ قبلَ أن تدركَ لهفتي..
واظبْ على تربيةِ الزّرازير في ضحكتِك
ولا تُلبسِ الغزلَ ربطةَ عنقٍ سوداء
حتّى لا أموتَ أكثر..
وأغدقْ كفّيكَ ملوكَ الأقحوانِ على قاماتِ العذارى
أحيلُ لهنَّ، أيضاً، حصّتي من القُبلِ!
لا تبرّرني أيها الغريب..
فتقولَ:
هي امرأةٌ بطَّنت روحها بجسدِها، لتعميهِ عن غيابي
فالأمُّ تُلبسُ طفلَها كنزتَهُ بالمقلوبِ؛ كحرزٍ!..
فقط، عنونْ غلافَ ضريحي..
ب ” هنا ترقدُ عيناي”!…
الدراسة النقدية :
أي وجع ذلك الذي يكسر الأضلاع في ( مجزرة عاطفية ) فيخرج الزمان من عزلته المتصلة بجميع المفاهيم الحسية و المادية وكل ذلك في إشارة واضحة للمسار المثيولوجي لسفينة نبي الله نوح ودلالاتها الرمزية :
” فيتسمَّمُ النهرُ، وتغرقُ الأسماءُ جميعُها..
إلّا من قطعَ السَّابلة مع الله،
أو لحقَ بسفينةِ الفنتازيا! “
بين الموت و الحياة يبقى قلق الروح معلقاٌ بالحلم والقصص المستحيلة
( ضاقُ العمرُ على نذورِهِ أيُّها الغريب..
يا من انضوى فيه كلُّ الأولياءِ والقصصُ المستحيلة
يا نديمي في الرّيقِ العنيدِ
ويا شريكي في حرقِ جلبابِ الحكمةِ الوحيد “
واستخدام الشاعرة لكلمة ( يا شريكي ) هو اقتسام للنصيب في ( حرق جلباب الحكمة الوحيد ) وهنا صورة إيحائية تعبر من خلالها الشاعرة عن مدى الألم والمعاناة
ولكن يبقى الحضور الأقوى للذات ومفهوم الأنا الذي يحدد الاتجاه
” أنا التّلةُ الّتي تطلُّ على ما لا تريد “
وفي التجسيد تحول الشاعرة الزمان إلى مكان مادي ملموس يمكن الوقوف على قمته و تشبيه الشخص ( كعرّابِ الرّعدِ ) وكلمة عرّاب هي لفظة سريانية وتعني كفيل المعَمَّد في المسيحية و تبقى لمسات الشاعرة لصيقة بالرمزية التي نعتبرها جزء من الجمال الخفي لتضفي مقاربات بصرية وسمعية مركبة ضمن سياقات بنيوية تحقق كثافة التصوير والانزياح
أيُّها الواقفُ في أعالي الزِّمان كعرّابِ الرّعدِ،
وما يميز الشاعرة سعاد محمد هو صياغة الصورة المركبة وتوظيفها للوصول إلى الهدف المنشود، في التشبيه او الكناية أو تجسيد المعاني
” ترمي لي حبلَ عمرِكَ لأصعدَ إليك، وتُعيرني يديك!
تشرقُ بي الحياةُ كثيراً يا صديقي.. “
و نقرأ ما خلف السطور لاستقصاء المعنى الدلالي في الترادف الضمني بأسلوب عكسي ( لا أبكي من الموتِ؛ أنا أبكي على الحياةِ ” ) و ما أصعب ان يسرقك من يدعي انه حريص عليك وانت تخبئ اغلى ما لديك في جيوبه ، معادلة صعبه وواقع مرير ومع كل ذلك يضيع العمر بين الذات الشاعرة و النرجس السادي و ما تسقطه من أبعاد نفسيه و دلالات رمزية في منظور ثلاثي الأبعاد ( العمر ، الحظ ، الموت )
وتبقى الأمنيات معلقة على جدار اللهفة رغم كل ما يقوض حائطها الافتراضي ،و المواظبة هنا تفيد المداومة والاسنمرار والمواكبة على تنفيذ، الوصية
” لو تهدّمَ حائطي الافتراضيَّ على ذاتي الشَّاعرة
ولطمتني حجرُ القضايا الكبرى..
ومتُّ قبلَ أن تدركَ لهفتي..
واظبْ على تربيةِ الزّرازير في ضحكتِك “
و استخدام الشاعرة ( لا ) الناهية ( لا تُلبس ) وهي تفيد الطلب بالامتناع عن الفعل و اما ( حتى ) هنا بمعنى ( كي ) التعليلية
ولا تُلبسِ الغزلَ ربطةَ عنقٍ سوداء
حتّى لا أموتَ أكثر..”
وتبقى جماليّات الصور الفنيّة، وتحولات هذه العلاقة ودوافعها تتراكم بجدوى الشعر نفسه فالاقحوان هو دلالة رمزية على القلب النقي بما يحمل من الفرح و التفاؤل و الإخلاص ليغذق كفيه على ( قامات العذارى ) و في صيغة المضارع المنسوب لضمير المفرد المتكلم (أنا) تستخدم الشاعرة ( أحيلُ لهن ) والكلام عائد على قامات
العذارى ( حصتها من القبل ) :
” وأغدقْ كفّيكَ ملوكَ الأقحوانِ على قاماتِ العذارى
أحيلُ لهنَّ، أيضاً، حصّتي من القُبلِ!”
اللغة الشعرية التي تعبق بتفاصيل الصورة وكينونيتها هي جهد لغوي وبناء لفظي يواكب الحدث و هي مقتنعة دون تبرير ذلك السلوك أو تعليله ، فالغائب عن العين حاضر في القلب ،” لا تبرّرني أيها الغريب.. “
فتقولَ:
هي امرأةٌ بطَّنت روحها بجسدِها، لتعميهِ عن غيابي ‘
وتستخدم الشاعرة التقاليد و العادات الدارجة ( لبس الثياب بالمقلوب ) خوفاً من العين والحسد وما تطلبه فقط عنوان على الشاهدة ( ب ” هنا ترقدُ عيناي”!… ) فتقول :
فالأمُّ تُلبسُ طفلَها كنزتَهُ بالمقلوبِ؛ كحرزٍ!..
” فقط، عنونْ غلافَ ضريحي..
ب ” هنا ترقدُ عيناي”!…
إنها لغة رمزية وفضاء رحب تجتمع فيه الفكرة الباطنة مع وهج الصورة وتراكيبها الدلالية لتحلق بنا في مذهب الغرابة والدهشة و يبقى للنص فضاء رحب و مدى أرحب.
القاص والناقد حاتم قاسم