الطوق الصامت للكاتبة أميرة عبدالعظيم

 

 

صعدت روحها إلى السماء، ترفرف عروسًا بثوبها الأبيض، بينما جسدها الممدد على الأرض يغرق في بحرٍ من الدماء. طعنة قاتلة إستقرت في قلبها، لتنهي حياتها في لحظة خاطفة، بدا الأمر وكأنه شجارٌ عادي بين زوج عمتي وأبي، لكنني كنت شاهدةً على أحداث تلك الليلة… أحداث غيّرت حياتي إلى الأبد.
كنت في التاسعة من عمري، حين أفزعتني صرخة مدوية شقّت سكون الليل، قفزت من فراشي، أتخبط في الظلام، أبحث عن أمي في كل زاوية من المنزل، حتى سمعت بكاءً خافتًا ينبعث من الطابق العلوي… كان صوت أبي.

صعدت الدرج بخطواتٍ مرتجفة، وجسدي الصغير يرتجف خوفًا وما إن وصلت، حتى وجدت نفسي أمام مشهدٍ لن يغادر مخيلتي أبدًا؛ أمي ممددة على الأرض، غارقة في دمها، والسكين لا تزال في يد أبي، كانت قطرات الدم تتساقط من يده المرتعشة، وعيناه غائمتان كمن ينتظر نهايته.
لم تمضِ سوى لحظات، حتى شهق شهقته الأخيرة وسقط أرضًا، مُنهارًا إثر أزمة قلبية مفاجئة.

لم أستوعب ما رأيته، قبل أن تختطفني ذراعا عمتي، تكتم صرخاتي، وتسحبني بعيدًا عن الغرفة. في لحظة واحدة، أصبحت يتيمة.
تربيت على يد عمتي، التي أصبحت مسؤولة عني، لكن الحياة في منزلها لم تكن سهلة. كان هناك شيء غريب يحيط بنا… شيء يجعل الجميع يهابنا، كأننا نحمل لعنة خفية.

مرت السنوات، لكنني لم أنسَ أبدًا. كل ليلة، عندما أخلد إلى النوم، كانت أمي تزورني في أحلامي. بثوبها الأبيض، تلامس شعري بحنان، تحمل غصن زيتون أخضر في يدها، لكن عينيها كانتا تدمعان دمًا، تمامًا كما انساب الدم من يد أبي في تلك الليلة المشؤومة، وبصوت ناعم كالغناء، كانت تهمس:

“أنا معكِ يا حبيبتي… رفيقة دربكِ… ارفعي الشوك عن جسدي… أنا لست خائنة.”

لكنني لم أجرؤ على إخبار أحد بتلك الأحلام، خاصةً عمتي. كنت أخشاها، وكأنها تخفي سرًا رهيبًا.
حتى أن زوجها، هجر المنزل بعد الحادث مباشرة ولم يعد، دون أن يترك أثرًا أو تفسيرًا.
كبرتُ في عزلة، بلا أصدقاء، بلا أقارب يقتربون منا، لكن تساؤلاتي ظلّت تطاردني، تُثقِل روحي، تبحث عن إجابة.

وفي إحدى الليالي، تغير كل شيء.
كنت أجلس في غرفتي، أكتب أفكاري على الأوراق، حين هبت ريح عاصف اجتاحتني فجأة، تناثرت معهاالأوراق في الهواء، وتملكني شعور غريب دفعني للنهوض، وكأن قوةً خفية تسحبني نحو غرفة عمتي، وقفت أمامها، والدموع تحرق عينيّ، أصرخ دون وعي:

“لماذا؟ لماذا قتل أبي أمي بلا رحمة؟ قولي لي الحقيقة!”

تجمدت ملامحها للحظات، شحب وجهها، وابيضّت عيناها كأنها رأت شبحًا من الماضي. ثم فجأة احتضنتني بقوة، وراحت تربت على كتفي بحنان لم أعهده منها من قبل.
بصوت مرتجف همست:

“كنت أعلم أن هذا اليوم سيأتي… كنت أعلم أنكِ سجينة لهذه الأسئلة منذ تلك الليلة المشؤومة.”

تنهدت بعمق، وكأنها تحاول جمع شتات نفسها، ثم تابعت بصوتٍ حزين:

“أمكِ بريئة، وأبوكِ أيضًا… كلاهما كانا ضحيتين لذلك الوغد الهارب؛ صديق والدك، أو الذي كان يظنه صديقا، أوغر صدر أبيك علينا جميعًا، وصدقه، لكنه لن يفلت من عقاب الله.”

اتسعت عيناي بدهشة، وقبل أن أنبس بكلمة، أضافت:

“لقد ظن أبوكِ أنه خُدِع، أنه تعرض للخيانة… لكن الحقيقة كانت مختلفة، الحقيقة التي لم يستطع أحد قولها في تلك الليلة.”

الكاتبة أميرة عبد العظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *