قصة الآخر للكاتب طاهر عصفور

  • احتشدَ الجميعُ، تهيَّئوا جيِّداً رأيتُ ذلكَ في حركاتِهم المُتلَهِّفَة المَمزوجَة بعِطرهِم الكاذبِ، أرادَ الجميعُ التَّرحيبَ بالنَّجمةِ القادمةِ بعد غيابٍ.
  • أحمق! …. فليحتَشدوا، لا تَحفلْ أنت! ألم تقُل لي بأنَّ لديكَ مشروعُكَ الخاصُّ.
  • لا تُقَاطعنِي و دَعنِي أُنهي كلامي.
    سكتُّ على مضضٍ، و ابتلعتُ لِساني فأنا أعرفهُ منذُ الصِّغر، يَصمُت كَثيراً لكنه إذا تحدث لا أملك من أمري إلا أن ألتزم الصمت.
  • احتشدتُ و رسمتُ لوحةً ألهَمُتها كلماتِها، حاولتُ بكلِّ طاقَتي، سهِرت أياماً أفكِّرُ بالألوان و الأبعاد و التَّناسُق، اجتهدتُ، تعرَّقتُ و غرِقتُ داخلَ نفسِي، تفرَّستُ في كلمَاتِها لأضعَ قطعَةً من رُوحي داخلَ إطار ٍ.
    في الموعدِ المحدَّد حضَرتِ النَّجمةُ، تنافسَ الجميعُ في محاولةِ لفتِ نظرِها لكنَّها عاملَتِ الجميعَ بحذرٍ و برودٍ، عندما حان َدوري نظرتْ إلى لَوحتِي ثمَّ ضحِكَتْ.
  • جميل!..
    بما أنَّها ضحكتْ فهذا شيءٌ جَميل.
    نظر إلى السَّماء الَّتي كان يسدُّها سقفُ الغرفةِ، و ابتسمَ ابتسامةً غَريبة.
  • نعم جميلٌ، ولكنْ ليس كما تتصَوَّر أنت، ضحكتْ ساخرةً يا صديقي!
    أحسستُ بذلك، كانتِ المحطّاتُ التِّليفزيونيَّة حاضرةً و بثَّت تلك الضِّحْكة َعلى الشّاشات، راجعتُه أكثر من مرَّةٍ حتّى كدتُ أحفظُ تقاسيمَ وجهها و نظراتِ عينَيهَا.
    شعرتُ بما يرمي إليه، فتوتّرتُ، كانت حساسِيتُه مفرطَة منذ الصِّغر، يغضبُ على سببٍ نظنُّه تافهاً ولكنَّه عند شرحهِ نُدْرك فداحةَ ما ارتكبنَا، كما أنَّ اللّه حباهُ عيناً فاحصَةً تُدرك ما خلفَ الجسدِ، فلنْ تستطيعَ خداعَهُ، سيظهرُ ذلك َفي قولِك أو حركاتِك و سيكشِفُكَ و يعرّيكَ أمامَ نفسِك.
  • يا سلام …. و مَن تظنُّ نفسَك ….. فرويد !؟
    ابتسم َحين ذاك و أعاد نظرهُ إلى وَجهي فتوقَّفْتُ عن الكَذب، ثمَّ عاد إلى كلامِه
  • شعرتُ بالنّار تسري في عُروقي لتستقرَّ في مُنتصَف القَفصِ الصَّدريِّ يا صديقي، نارٌ لا تخبُو ولا تنامُ، لذلكَ يجب أن أصفعَها.
  • هل أنتَ مجنونٌ هَل ستضربُ أمرأةً !؟ ونَجمةً أيضاً؟!
    كانت عيناهُ جامدتَان لأوّل مرةٍ كمن يسترجعُ أمراً ما.
  • متى ستخرَسُ يا هذا!
    الصَّفعَةُ لها عدَّة معان ..ما علينا .. سأجتهِد.. سأحسِّن أدواتي… سأكتَشف العالَم من خلال عينيَّ، سأبحثُ داخلَ ذاتي عن طريقةٍ لأخلِّد المَشاعرَ فيها بفرادة، سأضعُ ضحكتَها نصبَ عينيَّ، و سأحاولُ بكلّ ما أوتيتُ من قوَّةٍ أنْ اجعلَها بُكاءً مريراً لا يتوقّف.
  • يا رجل؛ انضج؛ هل ستكرّس حياتكَ من أجل ضحكةٍ ظهرَت من نَجمَةٍ … لا تدري ما سبَبها.
    أراح صديقي الفنُان ظهرَهُ و تمطّى قليلاً، مرّر يدهُ خلالَ شعرهِ القصيرِ، ثمَّ ابتسمَ
  • أحبُّ التَّجَاهلَ و السُّخرية، إنّهُما وُقودي، سَيظنُّون أنِّي عاديٌّ مثلَك، أبتلعُ الإهانةَ و أمضِي، لا يدرون بأنَّ كلَّ كياني قام على الرَّفض، هنا تكمُن فُرصَتي يا صديقي، كلَّمَا زاد تجاهُلُهم و سُخريتهُم منّي كانتْ صفعةُ الإبهارِ مؤلمةً.
    حين ذاك توقَّفَ صديقِي الفنّان عن الكَلَام، بدت ْعينَاه تريَا ما لا أراهُ،
    يحدّق في البعيدِ بكامِلِ تركيزه، تنفُّسُه بطيءٌ؛ بقيَ على تلكَ الحالة لمدَّةٍ تزيد عن خمسِ دقائقَ.
    حاوَلتُ لومَه على وصفه لي بالعاديِّ و ذكرتُ لهُ حالَ البلدِ و النّاس و الحُروب القَادمَة، لكنَّه لم يحْفَل.
    كانتْ عيناهُ تدوران في ملكوت آخر، لوهلةٍ أحسَستُ بلهيبِ الضّحكةِ يخرجُ من صدرهِ و دويُّ الصَّفعةِ يرنُّ في أذُني.

الكاتب طاهر عاشور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *