صلاة استسقاء على درب العودة قصة قصيرة ل د. غدير حميدان الزبون

كان من أوائل من تعلّمنا العلوم على يديه في بداية المرحلة الإعداديّة، معلّمٌ مخلص أفنى نصف عمره في مختبر العلوم بين أجنّة محنّطة على رفوف عليا، وكائنات أخرى تمّ تفريغها وتجفيفها على الرفوف السّفلى، يجري تجربة بأنابيب زجاجيّة متباينة الحجوم والأشكال، أو يشرّح أرنبًا والكلّ يرنو إليه بحذر، فلربّما تقع في شرَك تجربةٍ وتكون شريكًا لا محالة. وقتها كان مقرّرا علينا كتابٌ للعلوم العامة يضمّ بين دفّتيه أبوابا ثلاثة للأحياء والكيمياء والفيزياء، رجلٌ بشعرٍ أملس غزا الشّيب مفرقيه، فارع القامة، حنطي البشرة، لطيف الملامح، طيّب العينين، إذا رأيتَه أحببتَه ولو لم تعرفه، ينمّ عن ذهن صافٍ وذكاء متّقد.
وكنّا ثلاثين طالبة لديه، أو أقلّ بقليل للشعبة ب.


نذهب إليه في الحصص التي تتغيّب عنها المعلمات لأسباب قاهرة، كما يحدث أن نلتقيه في استراحة كلّ يوم، ويتكرّر اللّقاء يوميّا بعد انتهاء دوامنا المقرّر، فيجلس معنا فوق الساعة ودون الساعتين بنَهَمٍ غير مسبوق لإفشاء العلم الذي يكتنزه في عقله، ثمّ أعود للبيت قبل العصر في مسار روتيني محدّد لا خلل فيه، ويتكرّر بشكل يومي على مدار الأسبوع عدا يوم الجمعة وهو يوم العطلة اليتيمة آنذاك، ويتكرّر كذلك سؤال توبيخي من أمي وأبي
-لماذا كل هذا التأخّر، سينتظرك عقابًا شديدا لو تكرّر مرّة أخرى؟
-نتأخر بهدف الدراسة، أستعين برفيقاتي لفهم معادلات الكيمياء، كما ترهقني رسومات كتاب الأحياء الدقيقة.
-استعيني بشقيقتك الأكبر منّك.


-هي لا تقوى على تدبير شؤونها، ولن تغفرا تقصيري في شهادة نهاية العام الدراسي.
غير أنّ أستاذنا الفاضل قرّر يوما أنّ كسر الروتين من وقت لآخر أمر لا بأس به، فلم يحضر لأيّام معدودات.
وضجّت الطالبات المولعات بالعلوم من صفوف السابع والثامن والتاسع وأنا معهن، ما العمل؟ ثمّ قرّرْنا بالإجماع فيما بيننا أنْ نختار ممثّلاتٍ عن الصفوف الثّلاث بشعبها لنقصد بيت أستاذ العلوم، فنرى ما خلَّفه عنّا لأيّامٍ متتالية، فإنْ خيرا فخيرٌ، وإلاّ فالذهاب إليه أوجب، والاطمئنان عليه أفضل.
وجدّت الطالبات في السّير، وسرتُ معهن ممثّلة عن طالبات الصف السابع ب، ولا أدري إلى أين؟!
ووصلنا بيت الأستاذ، وتفاجأ في أوّل الأمر بمقدمنا، ثم غلب الطّبع فيه، فهشّ وبَشّ وتبسّم، واعتذرَ بأنّ لديه ضيوفا منعوه عنّا، ودعانا للمكوث فأبينا، فسلّم، وانصرفنا على وعدٍ باللّقاء في اليوم التّالي.
-إلى اللقاء.


-هل سنراك غدا يا أستاذ؟
-سيكون لنا لقاء جميل، وتجارب جديدة.
وانصرفت الطالبات -وكنت أصغرهن- كلٌّ إلى بيتها من طريق مختصر غير الطّريق الّتي جئنا منها، وبقيت وحدي.
وكنت حينها بعدُ طفلة ساذجة في بدايات المرحلة الإعداديّة، لا عهد لي بمكان الأستاذ من قبل، ولا معرفة لي بطريق العودة للبيت، فوقفت في منتصف الطّريق مدهوشة لا ألوي على شيء، وبقيت على هذه الحال دقائق ظننتها دهرا، وقتها تلبّدت الغيوم في السّماء واعتصرت خمرًا كما اعتصرت دموعي حدّ الثّمالة، ثم تلمّست طريقي للبيت في حَنَقٍ بالغ على نفسي وعلى الطّالبات والأستاذ والعلوم والعالم، وعلى غبائي.
وسرعان ما تحوّل الغضب إلى خوف واضطراب ورغبة في البكاء، فكانت دموعي صلاة استسقاء على درب العودة!
-فدَيتُكم- يقولون: أنْ لا أحد يهربُ من طفولته، وطفلة في الأوّل الإعدادي بنفسٍ قلقة وعينين خائفتين يُطلُّ من عينيّ كلّما تبِعْتُ قوما أو سايرت جماعة في طريق لا أعرفها تمام المعرفة، دليل عميق على أنّه لا مهرب.
أكره حالة الضّعف والضّياع تلك، وأخاف تكرارها، لذلك اتجنّبُ ما استطعتُ السّيرَ على غير هدى في طرق يسلكها الناس، لا لشيء إلاّ لسلوك النّاس لها.

لم ينبس الكون ببنت شفة، ولا صوت يعلو على صوت نشيج البكاء وانهمار الدموع من مقلتي، يومها وصلت المنزل ورمقت والدي بنظرة إجلال وإكبار، وللمرة الأولى لم يسألا عن سبب التأخر ولم يصبّا عليّ جام غضبهما وتوبيخهما، انسحبت من أمامهما مثل شبح هارب إلى غرفة مظلمة يتسرّب شعاع الغروب إليها من نافذتين، نافذة تطلّ على شارع للعشّاق والمتسكّعين، ونافذة تطلّ على قرص الشمس الذي يحتضن الحديقة الخلفيّة لمنزل العائلة القديم.
هدوء تامٌّ يُخيِّمُ على الغرفة المُطِلَّةِ على ضفاف شمس الغروب، يستكمل صديقي الصرصور معزوفة الرَّحيل التي تجعل من المكان أوركيسترا ، شُخُوصها جذوعٌ بُنِّيَّةٌ قد أُلْبِسَتْ خضرة المكان … عينان شاخصتان ترمُقان القمَرَ القادم مع رحيل شمس الأصيل، و قد التَفَّتِ التَّجاعيدُ المبكّرة وانعقاد حاجبي الغضب حول ناصيتي، أكواز الصنوبر الجافّة تسقط على سقف البيت الخشبي كأنها قنابل تنزلُ من عَلٍ لتُفَجِّرَ أمانِيَّ الفتاة الهاجعة..الدَّقائق تزحف و كأنها لا تريد الانصرام، لتزيدَهُا خوفًا لا يُطاق ، فمع كل زَفْرَةٍ من زفرات الهلع، تُستَباحُ براءةُ تلك

المُنْهَكة من وحشة طريق العودة ! يشتَدُّ الخطب و قد ارتوى مضجعُها عرقا ودموعا …
تنهض من فراشِها الذي حَمَّلَتهُ أوزار المساء ويوم مضى بستر الله، ترتعش كالتي يتخبَّطُهُا الشيطانُ من المسٌِ، شفتاها اللتان أطبقتا عن الكلام، اكتفتا بالهمس المُحْتَشِمِ على أرجوزة النَّبْسِ، تأخذُ نفسا عميقا عُمْقَ الصراع الدائر في غور نفسِها ، تستعجلُ الصباح لتصرُخَ بِملْءِ شِدْقَيْها: اللعنة على تلك الطريق …اللعنة على تلك الطريق… أريدُ سلامًا وسكينة… أُريدُ قوة لمواصلة الطريق، أعلم أنَّني قد أخطأت عندما غرّدت خارج سربي وتكبّرت على ذاكرة المكان، ولكن ليس هذا موعدُ الاستسلام، لا زال أمامي سنتان لتغيير خريطة الطريق والانتقال لمدرسة قريبة لا يضيع على مفارقها الأطفال السّذّج.


أطلت المكوث إلى جانب النافذة في انتظار المشهد الذي أحبّ، ها هو يبدأ يرتسِمُ على السوادِ بياضٌ يحكي أرواحا قد خطفتها أنامِلُ النّوم، تعلوني ابتسامة تحسُّبًا لطلوع الفجر، أسارعُ الخطوات و قد قصدت بهو المنزل، أشعلت التلفاز و قد رافقتني أعمدة الدخان المتصاعدة من فمي لبرودة المكان، هاهي تعلو وتتراقص، جميلة تلك الأنفاس لقد زادت الجوَّ غيوما لتحجب شمس الحقيقة، شريط الأخبار الاستعجاليِّ يتكرر ظُهورُهُ ، أرَكِّزُ ناظري عليه لأقرأ ما كُتِبَ: فقدان طفلة في طريق عودتها من المدرسة، بُهِتُّ وتغيرت ملامحي مجدّدا وقد أطفأت التلفاز وأنا أقول: لا تقولي لي أيّتها النافذة الملعونة، عُودي إلى الشَّمس .. فإِنِّي أَنتمي الآنَ إلى حِزْبِ المَطَرْ سأسير مجدّدا في تلك الطريق ولكنْ سأصلي كثيرًا في درب العودة…

د. غدير حميدان الزبون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *