في اعتقادي، أن رد المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها حماس، على دعوة البيان الثلاثي لإجراء جولة جديدة من المفاوضات الخميس القادم، لم يحدد مكانها حتى الآن بين القاهرة أو الدوحة. الرد جاء بالقول بأنه يتوجب على الأطراف الثلاثة تقديم خطة للتنفيذ وتنفيذ ما اتفق عليه، ولا حاجة للتفاوض من جديد، استنادًا إلى ما قبلته المقاومة في 2/7/2024، مبادرة الرئيس بايدن ومصادقة مجلس الأمن الدولي عليها وفق القرار 2735.
لعل هذا الموقف يمثل موقف محور المقاومة بمجموعة من طهران، مرورًا بالضاحية الجنوبية فصنعاء، بغداد، دمشق، وصولاً لفلسطين. فقد قال السيد نصر الله إن جبهات الإسناد تقبل ما تقبل به المقاومة في غزة، وأن غزة بمقاومتها تفاوض نيابة عن المحور. من هذا المنطلق، البيان الصادر عن المقاومة، والذي تمثله حماس، عبر عن ذكاء استراتيجي في الرفض بالقول بوضع خطة عمل للتنفيذ وليس استمرار الدخول في التفاوض. أي على أطراف البيان الثلاثي إحضار موافقة نتنياهو على تفاوض مسقوف زمنيًا للتنفيذ، وليس القدوم للتفاوض على اتفاق الإطار وبنوده. كما شكل تعيين السنوار ذكاءً استراتيجيًا كرد على خطوة اغتيال القائد هنية في طهران.
الرسالة هنا واضحة: اغتلتم هنية، رجل السياسة والانفتاح على المفاوضات، والآن تقفون أمام من تخشونه ويشكل كابوسكم وكابوس رئيس وزرائكم. فها هو السنوار رئيسًا للحركة، ومفاوضًا عن المقاومة، وقائدًا لهذا المحور، ويحمل دم هنية كمسؤولية تستدعي الرد على جريمة اغتياله. الرسالة واضحة: لا نزول عن السقف الذي حدده هنية بمرونة سياسية في الشكل والمرحلية لعملية التفاوض دون التنازل عن الجوهر والأهداف، وأن تقود تلك العملية إلى تلبية شروط المقاومة وتستجيب لأهداف الشعب الفلسطيني، ولحجم التضحيات الكبيرة والثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه شعبنا. المطلوب هو وقف العدوان أولاً بشكل دائم، وانسحاب شامل من كامل القطاع، وعودة النازحين بلا شروط، وإعادة الإعمار وفتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية بشكل يلبي حاجة القطاع، وتنفيذ صفقة تبادل الأسرى بما يستجيب لشروط المقاومة. لا قول بعد قول هنية وربما لا يكون هناك حاجة للتفاوض. أي على نتنياهو التفاوض مع الوسطاء حتى يقر بإطار الاتفاق وبنوده، وبعد ذلك يحين البحث في التنفيذ. إلى حين ذلك، ستبقى الأيام والليالي والميدان بين المحور و”إسرائيل” ومروحة حلفائها وشركائها من أمريكان، أوروبيين غربيين، وبعض الأطراف الإقليمية والعربية الرسمية.
أمريكا التي تحشد سفنها، وبوارجها، وأساطيلها، ومدمراتها، وأحدث طائراتها في المنطقة، وتسعى لإيجاد أوسع مروحة تحالف من الحلفاء والشركاء، أوروبيين غربيين، إقليميين، والعديد من دول النظام الرسمي العربي، لحماية والدفاع عن “إسرائيل” من هجوم ورد مرتقب من قبل طهران ومحورها في المنطقة. بالمقابل، تجند دبلوماسيتها لتقف خلف البيان الثلاثي كفرصة أخيرة للتفاوض. ربما نافذتها باتت تضيق كثيراً، وخاصة أن هناك إجماع “إسرائيلي” في المؤسستين الأمنية والعسكرية، بأن نتنياهو لا يريد تنفيذ الاتفاق، وهو يأتي من أجل النقاش في اتفاق الإطار وبنوده وليس تنفيذه. يعتقد نتنياهو بأنه كلما أطال أمد الحرب، كلما اقترب من تحقيق أهدافه. يجمع قادة جيشه في القطاع أن هذا الجيش بعيد كل البعد عن تحقيق ما يسمى بـ”الانتصار الساحق” أو إلحاق الهزيمة بحماس وقوى المقاومة، بما تتزود به من سلاح عابر للحدود وطائرات مسيرة بأنواعها المتعددة والأنفاق الاستراتيجية.
وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، ومدير المخابرات المركزية “سي آي إيه” وليام بيرنز، وبريت مكغورك، كبير مستشاري البيت الأبيض لمنطقة الشرق الأوسط، جاءوا للمشاركة في العملية التفاوضية. هذا الحشد العسكري والدبلوماسي يترافق مع مواعيد مقترحة للرد من قبل المحور، والذي يبدو أن هناك دلائل على قرب تنفيذه. كل من طهران وبقية جبهات الإسناد يقولون بأن المفاوضات لن تلغي الرد أو تخفض من سقفه، بل هو رد بحجم الجرائم المرتكبة، وسيسهم في ردع “إسرائيل” عن الاستمرار في عدوانها واستهدافها لقوى المقاومة والمحور. فـ”إسرائيل” طلبت من جنودها المتواجدين في أذربيجان وأرمينيا العودة فوراً للالتحاق بوحداتهم العسكرية. كذلك، حزب الله اللبناني، عبر الإعلام الحربي، ينشر تسجيلات تشير إلى قوة الرد ودقته وحتميته. كما قام بإخلاء مقراته في الضاحية الجنوبية، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر والمقرات الإدارية. في حين، القنوات التلفزيونية الإيرانية تنشر ترويجًا لشعار “الانتقام آت” لدم إسماعيل هنية. جالانت، وزير حرب الاحتلال، يبلغ نظيره الأمريكي لويد أوستن بأن إيران تقوم بعمليات نقل وتجهيز لصواريخها الاستراتيجية، في إشارة إلى قرب الرد الإيراني. أمريكا تسرع وصول حاملة طائراتها “أبراهام لينكولن” وما تحمله من طائرات متطورة “إف-35″، وكذلك ترسل غواصة “يو أس أس جورجيا” إلى المنطقة.
حالة من الترقب والتساؤلات: هل تنعقد المفاوضات؟ وهل سيكون الرد قبلها أو بعدها؟ وهل هناك فرص لعقدها؟ في ظل حديث من قبل نتنياهو بأنه موافق على إرسال وفده للتفاوض، ولكن ليس للتنفيذ، بل لنقاش اتفاق الإطار وبنوده. بمعنى أنه سيستمر في مجازره واستهداف المدنيين والبنى والمؤسسات والقطاعات المدنية من مؤسسات صحية وطبية ومدارس ومراكز إيواء وغيرها. هذا لا يمكن أن تقبل به المقاومة.
كذلك، سموتريتش وبن غفير قالا بشكل واضح إن وقف إطلاق نار وصفقة تبادل يعني سقوط حكومة نتنياهو. ونتنياهو لا يضحي بحلفائه وهو لا رغبة لديه بوقف الحرب، ويدرك بأن حجم الضغوط التي تستطيع أن تمارسها عليه الإدارة الأمريكية يتراجع مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، وحاجة الديمقراطيين لأصوات اللوبي الصهيوني. بالمقابل، بايدن يعتقد أن نجاحه في إتمام صفقة تبادل الأسرى قد يحسن من رصيد وحظوظ فوز نائبته كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني، ولكن بايدن لا يمتلك أدوات ضغط جدية، ونتنياهو قال له بشكل واضح عندما التقاه في واشنطن: “لن يستطيع أحد داخلياً أو خارجياً أن يضغط علينا”.
“إسرائيل” أقدمت على اغتيال هنية، متوهمة بأن ذلك سيجعلها تستعيد قوة الردع أو تتحدث عن صورة نصر. ولكن عملية الاغتيال تلك أدخلت إسرائيل في أزمة مزدوجة؛ حيث إن التفاوض سينتقل إلى الميدان ومن قلب المعركة وفي الأنفاق حيث “الفندق” الذي يقيم به السنوار. وهذا “الفندق”، الخندق، لا يسمح بممارسة ضغوط عربية وإقليمية على السنوار، لا من قطر ولا من مصر، ولا يوجد طرف عربي أو إقليمي يمكن أمريكا من الضغط على السنوار. فالسنوار الآن رئيس ومفاوض، ورئيس حركة حماس وقائد المقاومة. الحشود الأمريكية العسكرية الكبيرة في المنطقة من بوارج وسفن وحاملات طائرات وغيرها قد لا تسهم في منع رد إيراني قاسٍ عليها.
من وجهة نظري، نافذة التفاوض تقترب من الإغلاق، ويبدو أن الخيار للميدان. فنتنياهو لا يريد سوى كسب المزيد من الوقت واستمرار ارتكاب الجرائم والمجازر لتحقيق هدف “الهندسة” الجغرافية والديمغرافية للقطاع، وتحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، وتوسيع الحرب إلى خارج قطاع غزة. وأمريكا، وإن بدت في الظاهر تقول إنها غير معنية بأن يتسع الصراع في ظل ظرف اقتراب موعد انتخاباتها الرئاسية، إلا أنها تقف إلى جانب نتنياهو وتعطيه الفرصة لكي يستمر في حربه التدميرية والوحشية. هي تريد دمج أهداف حربها في المنطقة مع أهداف حرب نتنياهو على قطاع غزة؛ تريد أن تشرعن وتأبد احتلالها لسوريا والعراق، وأن تمنع تموضعًا تركيًا جديدًا عبر المصالحة مع سوريا، وكذلك تريد منع تقدم روسيا والصين في المنطقة.
أمريكا في سوريا ليست لمشروع يخص سوريا فقط، بل لخدمة مشروع يخص موقع سوريا في الجغرافيا السياسية والعسكرية والاقتصادية الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق يتشكل مفهوم الأمن القومي الأمريكي في النظر إلى سوريا من ثلاثة عناوين: الأول، تحييد سوريا عن الجغرافيا العسكرية الروسية وما تمثله القواعد الروسية على البحر المتوسط؛ والثاني، تحييد سوريا عن الجغرافيا الاقتصادية الصينية وما تمثله الجغرافيا السورية في خطة الحزام والطريق؛ والثالث، تحييد سوريا عن جغرافيا المقاومة التي تهدد أمن كيان الاحتلال وما تمثله سوريا كقلعة في محور المقاومة.
واستناداً إلى كل ذلك، أرى أن التناقضات بين محور المقاومة وبين “إسرائيل” ومحور حلفائها وشركائها من الغرب الاستعماري ودول النظام الرسمي العربي، لم يعد من الممكن حلها سياسيًا ودبلوماسيًا. ستكون هناك مواجهة أو حرب مفتوحة، نتائجها سيبنى عليها موازين ردع وقواعد اشتباك وتحالفات جديدة وتوازنات إقليمية جديدة.
الكاتب الصحفي راسم عبيدات