عالق فى التيه للكاتبة أميرة عبدالعظيم

كان راكان ملقى على أرض اللانش، مغشيًا عليه، تحيط به الظلمة والصمت الموحش. لم يفق إلا مع بزوغ خيوط الفجر الأولى. الرياح كانت ما تزال تعصف بكل شيء من حوله، فيما كان يتخبط بين أركان اللانش المنهك، يبحث بجنون عن سيرينا، يناديها بصوت مخنوق وصراخ ممزق:


“سيرينا! أين أنت؟ لا تتركيني وحدي… سيرينا، لا!”

مر عامان ونصف…

راكان ما زال يعيش في سجن ذكرياته، يرقد على سرير متواضع في غرفة تكاد تخنقها الكآبة. أمامه وسادة بيضاء، استقرت عليها ملامح سيرينا في خياله، ضحكاتها العذبة تتردد في أذنيه كلما أغمض عينيه، وصوتها يداعب قلبه المكسور. يتذكر لحظات السعادة التي قضاها وهو يمرر يده على خصرها الملفوف، يتلمس دفء وجودها، ويغرق في عينيها التي كانت كسماء صافية لا تعرف الغيوم.

عاش راكان سنواته تلك في انفصال تام عن الواقع. كلما مرت فتاة أمامه، كان يتبع خطواتها كالمسحور، يناديها بهمسٍ يائس: “سيرينا… لقد عدتِ! كم انتظرتك!”

حاله ساء مع مرور الوقت، حتى أنهى به الأمر إلى مصحة نفسية. هناك، جلس أمام الطبيبة، تتوه عيناه في ملامحها، يده تتلمس أصابعها المرتبكة، وصوته الخافت يسأل:
“أين سيرينا؟ أين حبيبتي؟ أريد أن أراها… أريد أن أحتضنها! لقد غابت عني طويلًا…”

كان بكاؤه صامتًا، لكن عينيه المتوهجتين بالدموع كانتا تصرخان وجعًا. أعطته الطبيبة مهدئًا لينام، وبدأت تقرأ عن المأساة التي قادته إلى هذا المصير.

في تلك الليلة المشؤومة…

كانت ليلة زفاف أشبه بحلمٍ من ليالي ألف ليلة وليلة. على متن سفينة “الريفييرا” الضخمة التي تأرجحت بنعومة فوق مياه البوسفور في تركيا، اجتمعت العائلتان في احتفال أسطوري. أضواء السفينة كانت تعكس ألوانها على المياه، فتبدو وكأنها مرصعة بحبات اللؤلؤ. الموسيقى التركية العذبة تملأ الأجواء، والضيوف يرقصون على أنغامها كأنهم أبطال قصة خيالية.

أما سيرينا، العروس، بفستانها الأبيض البديع، فقد كانت ملكة الحفل، تتربع على عرش قلب راكان، ابن رجل الأعمال التركي الشهير رشدان رشدي.

لكن… في الصباح التالي…

أصر راكان على الخروج في رحلة صيد باللانش الجديد الذي أهداه إياه والده. رغم اعتراض سيرينا، التي كانت مرهقة من ليلة زفافهما، استسلمت لرغبته في النهاية. لم تكن تريد أن تبدأ حياتهما الزوجية بخلاف.

إنطلقا في الرحلة، ولم تكن الرياح العاتية ضمن حساباتهما. فجأة، تغيرت الأحوال، واشتدت الرياح بشكل مفاجئ. فقد اللانش توازنه، وإرتطم بصخرة عالية وسط العاصفة، لم يبقَ سوى الظلام والموج الغاضب.

ثلاثة أيام مضت…

وعُثر على جسد سيرينا، هامدة، تحيط بها أمواج البحر كأنها تحاول أن تخفيها عن قسوة العالم. أما راكان، فلم يفق منذ ذلك الحين، يعيش في ظلال ذكرياته، يرفض الحاضر بكل ما فيه، ويستحضر سيرينا في كل لحظة وكأنها لم ترحل.
ما زال راكان ينتظر… مؤمنًا أن الحياة لم تطوِ صفحة سيرينا، وأن هناك يومًا سيجمعهما من جديد.
كان يهمس في وحدته:


“سيرينا، إن لم نلتقِ في هذا العالم، سأبحث عنك في كل العوالم الأخرى… سأجدك، هذا وعدي لكِ.”


الكاتبة أميرة عبد العظيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *